03 أبريل 2013

أوجاع اللغة العربية: اللغة والهوية الوطنية بقلم/ يعقوب عبد الرحمن


تفخر كافة الأمم المتقدمة منها، بل والنامية بلغتها الأم وتعدها جزءا لا يتجزأ من هويتها الوطنية، وتبذل كل جهدها للحفاظ عليها إن لم يكن لتطويرها. وكان المستعمر يهجم أول ما يهجم على لغة الأمة المُستعمرة وثقافتها المحلية، ليعمل على محوهما وإحلال لغة المستعمر مكانها، وبالتالى تسهل السيطرة على الشعب المحتل، كما حدث إبان احتلال الجزائر ودول المغرب العربى وغيرها من الدول الإفريقية، كما أن الشعوب التى لديها (القابلية للاستعمار) – كما ذكر المفكر الجزائرى الكبير مالك بن نبى فى كتابه شروط النهضة – هى التى تنبهر بلغة المستعمر وسلوكياته وتقوم بتقليده تقليداً أعمى، ويمكننى أن أقول إن الإنسان يرضع حب الوطن مع تعلمه للغة فى سنوات عمره الأولى، ولا يمكن لمن رضع حب الوطن مع حب اللغة فى سنوات عمره الأولى أن يفكر مجرد تفكير فى خيانة وطنه. 
وبينما نقوم بتدريس اللغات الأجنبية فى سن الروضة، وقبل أن يجيد الطفل لغته الأم، فإن كافة الدول الأوربية تحظر تعليم أى لغة أجنبية قبل سن الثامنة أو التاسعة على الأقل، بل ويمتد ذلك الحظر فى إنجلترا حتى سن الحادية عشر حفاظاً على لغتهم الأم وعدم إرباك مدارك الطفل وفهمه. 
وقد انتشرت فى مصر هذه الآفة فى العقود الماضية بعد إقرار سياسة الانفتاح الاقتصادي، حتى استفحل أمرها، وانتشرت ظاهرة تعليم الأطفال اللغات الأجنبية قبل أن يتعلموا اللغة العربية، مما خلق أجيالاً كاملة ممن لا يجيدون اللغة العربية، بل إن أغلبهم لا يجيد اللغة الأجنبية التى ظل يدرسها منذ نعومة أظافره، وذلك نتيجة للارتباك الفكرى بين لغة الحديث فى المدرسة والمنزل ولغة الصحف ووسائل الإعلام، وما يتعلمه من لغة لا تمت لثقافته بصله.
ويقول علماء النفس إن الإنسان يفكر باللغة التى يتقنها، ولذا فإننا ندمر أفكار الأطفال بتعليمهم لغة أجنبية فى السنوات الأولى من أعمارهم. 
كما أن ضعف الطلاب فى اللغة العربية هو سبب مهم من أسباب تفشى الدروس الخصوصية، لأن الطالب الذى يجيد قراءة وفهم اللغة العربية، يمكنه قراءة وفهم الدروس، سواء من الكتاب المدرسى أو الكتاب الخارجى ولن يحتاج إلى دروس خصوصية، وبصفة خاصة فى المواد التى يتم تدريسها باللغة العربية. ولذا فإننى أعتقد أن أول سلاح لمحاربة الدروس الخصوصية يكمن فى تكثيف تدريس اللغة العربية فى المرحلة الابتدائية، والاقتصار على تدريس كافة المناهج الدراسية بها، على أن تكون بطريقة جذابة تعتمد على القصص وموضوعات الفهم، وبدون المبالغة فى الإكثار من دروس النحو بصفة خاصة، وبحيث لا تقل نسبة درجات اللغة العربية فى المجموع الكلى عن 80% فى السنوات الثلاث الأولى، 70% فى السنة الرابعة والخامسة، و60% فى السنة السادسة والأخيرة، وإن كان تقدير ذلك بصفة دقيقة يجب أن يكون مرجعه للخبراء فى التعليم وعلم النفس. كما يجب حظر تدريس أى لغة أجنبية للطالب سواء فى مرحلة الروضة أو المرحلة الابتدائية حظراً باتاً، وألا تكون هناك أية استثناءات لكافة المصريين فى هذا الصدد، حتى لا يتم فتح باب التحايل عليها بأى ذريعة من ذوى الأحاسيس الدونية. 
ولا بأس فى أن نشير إلى أن الأفذاذ من علماء مصر وكتابها الكبار هم نتاج نظام التعليم القديم الذى كان يقوم بالتركيز على تعليم اللغة العربية فى التعليم الابتدائي، ثم يبدأ تعليم اللغات الأجنبية من المرحلة الإعدادية ثم الثانوية، بعد أن يكون قد أجاد لغته الأم إجادة تامة. ولم يكن أحدهم نتاج التعليم الخاص الذى ينتشر كتجارة رابحة فى العصر الحالي. 
وعلى المنوال نفسه، انتشرت ظاهرة إطلاق أسماء أجنبية على المحلات التجارية والشركات المصرية التى تقوم ببيع منتجاتها للمصريين فى ظاهرة مخجلة لا تعليل لها، بل وتجد إعلانات تجارية بأكملها باللغة الإنجليزية، وكأنها تخاطب أجانب أو تقوم بمخاطبة فئة خاصة. ومن المفارقات المدهشة أن تجد أسماء بعض هذه المحلات خليطاً مضحكاً لا معنى له من اللغة العربية والإنجليزية (فتح الله جملة ماركت، بيوتى سنتر للمحجبات، ...).
وتكتمل المأساة ويبدو الأمر مثيراً للخجل، عندما يقوم التليفزيون المصرى العربى بإطلاق أسماء أجنبية على قنواته من عينة: "نايل سبورت، ونايل كوميدي، ودريم، ودريم سبورت، .. وكلها قنوات ناطقة باللغة العربية والمفروض أنها موجه إلينا نحن المصريين. 
وقد كتب الكثيرون عن انتشار هذه الظاهرة المؤسفة بعد حقبة الانفتاح الاقتصادي، ومنهم على ما أذكر الراحل الكبير رجاء النقاش، والذى كتب فى مفكرته بجريدة الأهرام، منتقداً استخدام أحد كبار الكتاب لكلمة أجنبية لها بديل واضح وأجمل باللغة العربية. 
كما أن الصحف المحلية تساهم فى شيوع هذه الجريمة الشنعاء عندما تقوم بإطلاق اسم (ألتراس) على روابط المشجعين فى أندية كرة القدم، ومسمى "آراب آدول" على مسابقة حمقاء ومستوردة من المجتمع الغربي، بدلاً من "معشوق العرب" أو "نجم العرب"، وهكذا تنضم الصحف اليومية إلى القنوات التليفزيونية فى المحاولات الحثيثة التى تجرى على قدم وساق لهدم اللغة العربية. ولا بد أن نتدارك الأمر قبل أن تموت لغة القرآن وتتحول إلى لغة للتراث والمتاحف، يقتصر استخدامها فى العبادة، هذا إذا نجت العبادة من هذه الهجمة الشرسة. 
وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى جهود مكثفة من وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام، والجهات الثقافية مثل المجمع اللغوي، واتحاد الكتاب، ثم قرار سيادى يتم تنفيذه بكل حسم من أجل إيقاف الظواهر المؤسفة للتسميات الأجنبية للمنشآت، ولوحات الإعلانات المكتوبة باللغة الأجنبية فى مدينة القاهرة بالذات، وكأنها تخاطب الشعب الإنجليزى أو الأمريكي.

ليست هناك تعليقات: