20 أكتوبر 2012

واقعٌ عربي يصنع الارتهان للخارج - صبحي غندور*




حينما تسأل أيَّ عربيٍّ عن توقّعاته بشأن تطورات أوضاع وطنه أو عن مصير الأزمات المشتعلة في المنطقة، تسمع إجابةً واحدة: "الأمر يتوقّف على ما سيحصل بين أطراف دولية وإقليمية فاعلة في المنطقة".
 وخطورة هذا الوصف لأزماتٍ خطيرة متفجّرة في المشرق وفي المغرب العربي، أنّ فيه تسليماً من الأطراف المحلية بارتهان أوطانهم وقضاياهم ومصيرهم لصراعاتٍ خارجية، وبأنّ دور هذه القوى المحلية هو دور المراقب أو المنفّذ لقرارات وإرادات من هم في عواصم دول أخرى.
صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات العربية، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟ وماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلدٍ عربي، وعن تلك القوى التي تتحرّك لتغيير الواقع أو التي وصلت الآن للحكم، وهل تصبّ أعمالها كلّها في صالح الأوطان ووحدتها؟!
إنّ التداعيات الجارية في أكثر من بلدٍ عربي تحمل مخاطر وهواجس أكثر ممّا هي انطلاقة واضحة نحو نهضاتٍ وطنية وعربية، وخطورة هذا الأمر أنّه يفرز العرب بين تيّارين: تيّار اليأس والإحباط وفقدان الثقة بنتيجة أيِّ عمل أو أيِّ حراكٍ شعبي، وآخر انفعالي متهوّر يرى في العنف وحده طريقه لبناء حياةٍ أفضل!.
إنّ نقد الواقع ورفض سلبياته هو مدخلٌ صحيح لبناء وضعٍ أفضل، لكن حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أفضل بديلة لواقعه، فإنّ النتيجة الحتمية هي تسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط. وكذلك هي مشكلة كبرى حين يكون هناك عمل أو حركة سياسية وشعبية لكن في غير الاتجاه الصحيح.
لكن هل كان من الممكن لعواصم غير عربية، مؤثرة في أزمات المنطقة الآنيّة، أن تصادر دور الإرادات الوطنية لو كان هناك حدٌّ أدنى من الرؤية العربية المشتركة لصيغ الحلول المنشودة لهذه الأزمات؟
فغياب المرجعية العربية الفاعلة هو المسؤول الأول عن تحوّل أطراف محلّية إلى وكلاء الإرادات الخارجية.
إنّ استقلالية القرار الوطني في أي بلدٍ عربي هي متأثّرة حكماً بمدى استقلالية القرار العربي عموماً. وهناك الآن مزيجٌ من الضغوط الأجنبية تمارَس لمنع حدوث الأمرين معاً. أي أن لا تكون هناك إرادة عربية مشتركة تعبّر عن قرار عربي مستقل، فضلاً عن دفع الأطراف المحلية أيضاً إلى مزيدٍ من الارتهان السياسي والأمني الذي يعطّل فاعلية أي قرار وطني مستقل.
المؤسف في واقع حال الأوضاع العربية اليوم، أنّ الشعوب لم تجد في الانتفاضات الشعبية كلَّ ما كانت ترجوه من نتائج وأهداف وآمال لتغيير أوضاعها في الاتجاه السليم، وأنّ بعض هذه الانتفاضات أصبح مسيَّراً من الخارج، بينما تزداد حكومات الدول العربية الفاعلة تباعداً فيما بينها، ممّا يجعل الحكومات والشعوب ومصائر الأوطان مرهونةً عموماً للإرادات الخارجية.
هي عناصر مشتركة، كلٌّ منها يؤثّر ويتأثّر بالعنصر الآخر: غياب المرجعية العربية، وبالتالي فقدان التضامن العربي والرؤية العربية المشتركة، ثمّ زيادة حضور الدور الأجنبي في تقرير مصير الشؤون الداخلية العربية وتدويل بعض هذه الأزمات، والعنصر الثالث والأهم هو اندفاع بعض القوى المحلية في أكثر من ساحة صراع إلى مزيدٍ من الارتهان للخارج، بل إلى حدّ التسليم الكامل بما يقرّره الآن من أجندة سياسية لأزمات هذه الأوطان.
إنّ الإرادة الوطنية الحرّة هي الأساس لاستقلالية القرار الوطني. والقرار الوطني المستقل هو الذي يجلي صورة المصالح الوطنية ويجعلها هي المعيار في المواقف، لا المصالح الفئوية لحكم أو فصيل أو حزب. وحينما تنظر الأطراف العربية بعيونٍ عربية، وليس بمنظارٍ أجنبي، إلى ما يحدث على أرضها وحول أوطانها، فإنّها حتماً ستصل إلى حتميّة أولويّة المصالح الوطنية.
ولم يكن نهج التقوقع الإقليمي والانعزال هو وحده الذي ساد بلاد العرب منذ ثلاثة عقود ونيّف، أي عقب عزلة مصر التي فرضتها اتفاقيات "كامب ديفيد" والمعاهدة مع إسرائيل، بل ظهرت أيضاً بدائل أخرى بألوان دينية وطائفية، بعضها كان متجذّراً في المنطقة لكن دون تأثيرٍ سياسيٍّ فعّال، وبعضها الآخر كان نتاجاً طبيعياً لمرحلة الحروب الإسرائيلية وللصراعات العربية والأهلية وتداعياتها السياسية في المشرق العربي.
وقد ترسّخت في العقود الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات "الوطن أولاً" و"الإسلام هو الحل" و"حقوق الطائفة أو المذهب"، لتشكّل فيما بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور "الهويّة العربية" واستبدالها بمصطلحات إقليمية ودينية وطائفية.
وهاهي بلاد العرب الآن تنتعش بحركات تغيير وحراك شعبي واسع من أجل الديمقراطية، لكن بمعزل عن القضايا الأخرى المرتبطة بالسياسات الخارجية وبمسائل "الهوية" للأوطان وللنظم السياسية المنشودة كبديل لأنظمة الاستبداد والفساد. فهناك تساؤلاتٌ عديدة عن طبيعة الحكومات القادمة في ظلّ تزايد المخاوف من هيمنة اتجاهات سياسية دينية فئوية على مقدّرات الحكم.
كلّ ذلك يمتزج الآن على الأرض العربية بمشاريع تدويل أزمات داخلية عربية، مع مخاطر تقسيم المجتمعات والكيانات على أسسٍ طائفية ومذهبية وإثنية، ووسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.
هو إذن عصرُ رفض الهويّة العربية المشتركة، بل وأحياناً كثيرة رفْض الهويّة الوطنية، عصرٌ يريد وصم شعوب هذه الأمَّة بتصنيفاتٍ تقسيمية للدين وللعروبة وللأوطان.
هو عصرٌ يريد إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفية والمذهبية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوًى دولية وإقليمية، تتصارع الآن وتتنافس على كيفيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.
ولن يمكن بناء أوطانٍ عربية سليمة في ظلِّ الفهم الخاطئ للهويّة وللدين وللتعدّد الفقهي فيه، ولكيفيّة العلاقة مع الآخر، أيّاً كان هذا الآخر.
فتعزيز الهوية الوطنية والعربية المشتركة يتطلّب أولاً إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، كما يستوجب تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي، فذلك أمرٌ مهم لبناء علاقاتٍ عربية أفضل، ولضمان استمرارية أيّ صيغ تعاونٍ عربي مشترك. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلِّ بلدٍ عربي، ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلدٍ عربي.
إنّ المدخل السليم لنهضة هذه الأمَّة من جديد، وللتعامل مع التحدّيات الخطيرة التي تستهدف أوطانها وشعوبها وثرواتها، هو السعي لبناء هُويّة عربية جامعة تلمّ شمل هذه الأمَّة وما فيها من خصوصيات وطنية وإثنية وطائفية، وتقوم على حياةٍ سياسية ديمقراطية سليمة تعزّز مفهوم المواطنة وتحقّق الولاء الوطني الصحيح. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير، لكنّه الأمل الوحيد في مستقبلٍ أفضل يحرّر الأوطان من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد لسياساتٍ أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.

*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن

ليست هناك تعليقات: