31 مارس 2012

إسقاط أوهام إستقلال قضاء تحكمه الديكتاتورية


*محمود عبد الرحيم:
من أكبر الأوهام التى صنعها نظام الحكم الديكتاتوري في مصر الذي لم يسقط بعد، وأستطاع للأسف أن يروج لها ويقنع بها كثيرين، أن "للسلطة القضائية قداسة"، وأنه "لا تعقيب على أحكام القضاء التى هي عنوان الحقيقة"، وأن "القاضي منزه عن الهوى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، وأن "قضاء مصر شامخ ومستقل وهو أخر حصون المجتمع، فإذا سقط، ضاع الجميع"، وما إلى ذلك من شعارات وصور ذهنية تم صنعها بعناية، لتتحول مع الوقت ومع إلحاح الدعاية السلطوية إلى صور نمطية، وأصنام تُعبد دون مناقشة أو تقييم لمدى صدقيتها، والغرض واضح جدا وهو إخفاء تغول السلطة التنفيذية ومؤسسة الحكم على السلطة القضائية، والسيطرة علي شئون القضاء والتدخل حتى في إصدار أحكام تمس مصالح الممسكين بمقاليد الأمور، وإسكات أية  أصوات تطالب بإستقلالية القضاء، أو تكشف إنحرافات تقع بين جنباته، وتسيس قطاع كبير من رجاله، وجلعهم يسيرون في ركاب السلطة، ويقدمون لها حماية قانونية عند اللزوم.
وحين يصرح المجلس العسكري وريث حكم الرئيس المخلوع مبارك بأنه فوض رئيس حكومته الجنزوري بكل صلاحيات رئيس الجمهورية فيما عدا شئون الجيش والقضاء، فهذا اعتراف واضح بتبعية القضاء لمؤسسة الحكم،
فضلا عن كون الرئيس أو من يحل محله هو الذي يعين رئيس المجلس الأعلى للقضاء وكل رؤساء الهيئات القضائية، إلى جانب وجود وزير بالحكومة من السلك القضائي مهمته إدارة شئون مؤسسة القضاء بكل تفاصيلها المالية والإدارية.
بالإضافة إلى إنتداب قضاة لأعمال إدارية بالوزارات الحكومية المختلفة أو بمؤسسة الرئاسة أو برئاسة لجان انتخابية بمزايا مالية تدخل في إطار ضمان الولاء، ناهيك عن اختيار ذوي مؤهلات الطاعة لمناصب وزارية أو لمواقع قيادية بالحكم المحلي.
فعن أية استقلالية للقضاء نتحدث؟ وأية نزاهة يمكن الوثوق فيها في ظل هذه المعطيات والتداخل بين السلطتين التنفيذية والقضائية.
وثمة شواهد عديدة تكذب أساطير النزاهة، وأن عين العدالة في مصر معصوبة العينين لا تميز بين حاكم ومحكوم، أو بين ذي حيثية وبين فقير معدم، أو أن مؤسسة القضاء لم يصبها ما أصاب كل مؤسسات الدولة في مصر من فساد وتخديم على سلطة مستبدة وفاسدة.
فيكفي أن نتوقف عند أحكام صدرت بحق قضاة تقاضوا رشاوى مثلا، أو يكرسون للمحسوبية وعدم تكافؤ الفرص في التعينات القضائية والتوسط لأبنائهم وأقاربهم بشكل علنى، أو إلتصاق قضاة بالمجلس العسكري ودعمه في مواقف عديدة من بينها تجريم الإضراب الذي هو حق دستوري أصيل، ناهيك عن وقائع تزوير للانتخابات شارك فيها قضاة، وتم فضحهم من قبل تيار الاستقلال بالقضاء الذي يمثل شاهد من أهلها لا يمكن التشكيك فيه، وربما الضرر الذي لحق بهؤلاء القضاة الشرفاء، وتعرضهم للسحل في الشوارع على يد رجال الأمن، وتقديمهم للجان تأديبية دليل آخر على هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء، والتنكيل بأي صوت يغرد خارج سرب التبعية وخدمة السلطان.
ولعل وقائع "قضية التمويل الأجنبي" وما شاهدته من مهازل بدءا من عدم ترك مهمة التحقيق للنائب العام، وأنما إنتداب قضاة تحقيق يقومون مع قوة من الشرطة والجيش بمداهمة مقرات مؤسسات المجتمع المدني، مرورا بتنظيم مؤتمر صحفي يتحدث فيه قضاة التحقيق للرأى العام عن قضية لم يتم البت فيها في مخالفة للأعراف القضائية وقاعدة أن "المتهم برئ حتى تثبت إدانته"، وفي إطار حملة دعائية لها أهداف سياسية واضحة، وإنتهاءً بجمع هيئة المحكمة في وقت متأخر من الليل، وإستدعائهم من منازلهم ليصدروا قرار بسفر المتهمين الأجانب بعد احتجاج واشنطن على منعهم من السفر، ثم  خروج رئيس محكمة الاستئناف عبد المعز إبراهيم ليتحدث عن أن القضية مجرد جنحة وليست جناية، ويبرر قرار رفع الحظر وتنحية المحكمة، وبالمناسبة هذا القاضي ذاته هو المشرف على اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية وعضو اللجنة الرئاسية، ما يلقي بظلال من الشك أيضا  على نتائج الانتخابات ويفسر صمته على الجرائم والانتهاكات التى شابتها، والاختراقات المفزعة للقانون الانتخابي لصالح التيار الديني المتحالف مع المجلس العسكري، والذي كان يراد له أن يكتسح، عبر تزييف إرادة الناخبين، الانتخابات للحديث بأسم الأغلبية التى تُستغل الآن لفرض الأمر الواقع، والسيطرة على الجمعية التأسيسية للدستور، وعرقلة تقدم الثورة للأمام لصالح إعادة إنتاج النظام الفاسد المستبد، وتوفير حماية لجنرالات مبارك والتصالح مع رموز العهد البائد.
وليس ببعيد عن هذا السياق المزدحم بالشبهات والشكوك، الاصرار على أن يشرف على الانتخابات الرئاسية رئيس المحكمة الدستورية العليا الذي جاء به مبارك والذي عليه علامات استفهام عديدة، وتحصين قراراته، بدلا من أن تكون تلك المحكمة وغيرها مستقلة عن هذا العمل الاداري لتكون مرجعية للحكم على الطعون والمخالفات، ما يقدم قرينة أخرى على تداخل السلطات، فضلا عن مؤشرات على إمكانية التزوير، وتوفير غطاء قانوني يحول دون إحباط محاولات السلطة الانتقالية تزييف إلارادة الشعبية أو تزويرها، وفرض أحد رجالها على الشعب.
ويمثل ملف محاكمة رموز النظام السابق وما شابها من تباطؤ مقصود، وتمييز واضح للعيان للمجرمين، ومعاملتهم كما لو كانوا مازالوا في السلطة بتوقير وتدليل، والافراج  المتتالي عن الضباط المتهمين في جرائم قتل الشهداء أو منحهم أحكاما مخففة، والتغاضي عن رفض جهات رسمية تقديم أدلة ووثائق، أو حتى مراعاة الصلاحيات الممنوحة للقاضي بأن يحكم ليس فقط بالأوراق التى أمامه، وأنما ما يستقر في وجدانه ويشكل عقيدته، كل هذا يؤشر لغياب العدالة وقبلها غياب الاستقلالية وتسيس القضاء المصري.
وفي المجمل، كل هذه المعطيات تدفعنا إلى القول إن الثورة التى دفعنا ثمنها دما من خيرة أبناء الوطن، لم تحقق أهدافها بعد، طالما أن القضاء لازال تابعا لسلطة جنرالات مبارك، ويتم توظيفه لحماية مصالحه على حساب مصالح الوطن والمواطن، الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة تفنيد إدعاءات استقلال القضاء، وأنه محصن ضد النقد، وأن أي انتقاد له يعني هدم الحصن الأخير للمجتمع، فتلك دعاوى الديكتاتورية وأنصارها الانتهازيين، وعلينا أن نحتشد كقوى ديمقراطية مدنية من أجل تطهير هذه المؤسسة، التى هي ملك لنا جميعا، ونطالب بإسقاط رموز فسادها، ونحن نناضل ضد إكمال إسقاط النظام الفاسد المستبد، حتى نأمن على العدالة والحقوق التى حتما ستضيع تحت قضاء تابع، وقضاة يقولون للسلطان سمعا وطاعة.
*كاتب صحفي مصري
Email:mabdelreheem@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: